الجمعة، 2 مارس 2012

على المعبر (قصة قصيرة)


" على المعبر "

" لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ " الحشر 14


لم تعجبه مصر .. كان هذا هو الانطباع الأول الذي تكون لدى الماجور (هنري فورس) منذ أن وطأت قدمه أرض مطار العريش لأول مرة . عندما رأى مجموعة الاستقبال تنتظره وملامحهم تنطق بالشغف والحبور شد من قامته ومشى بخطى سريعة واثقة وكأنه يملك المكان وليس مجرد زائر, فهو قبل كل شيء ممثل لبلده ويتوقع رؤساؤه منه أن يعطي صورة مشرفة عن نظامهم العسكري لأهل العالم الثالث هؤلاء .
كل واحد من الواقفين شد على يده بقوة وهو يصافحهم, وحاول البعض النطق بكلمات ترحيب في إنجليزية ركيكة رد عليها هو بابتسامة متكلفة. فهو لم يأتي للترحيب به ومجاملته, بل عليه مهمة محددة يجب التأكد من تنفيذها على أكمل وجه, وتخول له الاتفاقية المبرمة بين الولايات المتحدة والمصريين الكثير من الصلاحيات والتسهيلات لتسهل عليه إتمام ما أتى من أجله.
ساد الاضطراب لحظة بينهم عندما حاول الاستفسار عمن المسؤول عن توصيله للمستشفى, ثم تقدم رجل قصير وقال وهو يبتسم ابتسامة لزجة:
- أنا (وليم حبيب) وسأكون المرافق لك طوال الرحلة من الآن حتى تصعد لطائرتك عند انتهاء الزيارة.
سار هنري مع الرجل حتى وصلا لصالة المطار وعبرا بلا تعقيدات أمام ضباط التفتيش .حتى عندما صفرت آلة الكشف عن المعادن لم يتوقفا لحظة واحدة وإن تابعتهم أعين بعض المسافرين قي دهشة ووصلت لأذنه بعض الهمسات فلم يلتفت بل كان كل ما فعله هو أن تحسس سلاحه حول وسطه في حركة سريعة غير ملحوظة وتابع سيره.
بعد ساعة ونصف كان الماجور فورس يعبر البوابة الزجاجية لمستشفى رفح وقد بللته قطرات المطر المتساقطة بالخارج وعن يمينه وليم وكظله مساعده الذي عرف أن اسمه (شوكت) . تقدم الثلاثة عبر صالة استقبال بيضاء الجدران ولاحظ المصريان أن الضيف الأمريكي يدير نظره في كل شيء بالمكان ويعاين بدقة كل ما تقع عليه عيناه وكأنه زبون حصيف يقيّم البضاعة قبل أن يشتريها. حاول أحد الأطباء أن يقترب منهم لكن قبل أن ينطق بكلمة كان وليم قد أخرج من حافظته بطاقة صغيرة وهمس بصوت خفيض في أذن الطبيب الذي استمع في انتباه وبصره لا يفارق سطور البطاقة , ولما أنهى الرجل حديثه انطلق بسرعة كاد معها أن يتعثر واتجه ناحية سلم فصعده درجتين درجتين في سرعة متجها للطابق الأعلى . وما هي إلا لحظات حتى عاد ومعه رجل سمين يرتدي نظارات سميكة أخذ يهرول نحو وليم وعيناه تتابعان الأمريكي الذي كان قد ابتعد وراح يفحص عبوات إطفاء الحريق المعلقة على أحد الجدران.
وبعد حديث سريع اتجه وليم وشوكت ومعهما الرجل السمين ناحية هنري الذي كان الآن يأخذ ملاحظات في نوتة صغيرة وهو يتابع طبيبا يفحص سيدة مسنة تتنفس بصعوبة .
بعد أن قدّم وليم مدير المستشفى لهنري وتم التعارف بينهما أخذ المدير يفتخر بكفاءة مستشفاه ويشيد بما تم فيها ووليم يترجم في سرعة للإنجليزية إلا أن الماجور استوقفه وقال :
- أنا أفهم العربية جيدا, لا داعي للترجمة ! . وكانت جملته بالعربية الفصحى. ثم استدار للمدير وسأله عن مكان حجرة العمليات , وهل بنك الدم بالمستشفي به ما يكفي وعن تفاصيل أخرى كثيرة لم يسمعها وليم إذ أخذ هنري المدير من يده واتجها معا نحو أقسام المستشفى الداخلية تاركين إياه مع شوكت الذي أصابته الحيرة من فهم فحوى ما يجري أمامه فحاول الاستفسار من رئيسه عما يحدث وعن مغزى تصرفات الضيف الأمريكي . رفض وليم في البداية لكن بعد إلحاح من مساعده ولملله من الوقوف منتظرا بجانب السيارة قال :
- إن السر هو في منتهى البساطة , فزيارة الماجور لرفح غرضها الاطمئنان أن مستشفاها متطورة بالقدر الذي يسمح لها باستقبال الجنود الأمريكيين لو قُدر ودعت الحاجة أحدهم للعلاج.
- لكن ما الذي سيأتي بجنود أمريكيين إلى هنا ؟
- ليسوا مجرد جنود, بل كتيبة كاملة متوقع أن تصل لحدودنا مع الفلسطينيين قريبا لتشرف على ضبط الحدود .
- ولماذا ضبط الحدود بالذات؟
- يبدو أنك تعيش في العسل يا عزيزي. فالأمريكان يريدون أن يتأكدوا بأنفسهم أن عمليات التهريب عبر الأنفاق الحدودية قد توقفت تماما وتم قطع كل منفذ يؤدي لغزة , لذا أرسلوا منذ شهور طواقم تضع أجهزة استشعار على طول الحدود يراقبون منها كل ضربة معول تحت الأرض. هذا غير خطتهم الأخرى.
- أي خطة ؟
- إنهم يصنعون جد..
لكن قطع استرساله في الحديث مرأى هنري فورس وهو يتقدم نحوهم ثم ما لبث أن ركبوا السيارة وانطلقوا وعقل شوكت لا يزال يفكر في كلام رئيسه ويتساءل : يا ترى عن أية خطة أخرى كان يتحدث ؟! .
---------------------------
كانت الحجرة يغلب عليها الظلام إلا من أضواء شاشات الرصد الثلاثة المنتشرة في المكان ويجلس أمام كل واحدة منها ضابط شاب في زي مدني وهو يضع سماعتين على أذنيه. وفي نهاية الحجرة جلس رجلان ملامحهما أجنبية يراقبان شاشة الكمبيوتر المركزي الذي يحلل ما ترسله أجهزة الرصد من بيانات ويعطي النتائج في صورة رسوم خرائط مطبوعة.
فالحقيقة أن هذا المكان هو واحد من دستة أماكن مماثلة مهمتها منذ ما يزيد عن الستة أشهر هي مراقبة كل حركة على الخط الحدودي القائم بين قطاع غزة وشمال سيناء وتسجيلها وتحديد مصدرها بدقة هائلة ثم تحويل هذه البيانات لفريق آخر مهمته الوصول للمكان المحدد والتأكد من أن مصدر الحركة ليس أعمال حفر تحت الأرض .
في هذه اللحظة كان الهدوء يسود المكان حيث لم تسجل أجهزة الاستشعار أية نشاط على الحدود منذ ما يزيد عن الثلاثة أسابيع, لكن فجأة دخل ضابط طويل ذو شارب كث يتبعه آخر صغير السن ويبدو عليه الارتباك, وبا أنهما يكملان حديثا كانا قد بدءاه منذ فترة:
- ..وهنا غرفة الرصد والتحليل الأساسية حيث سيكون أغلب عملك, والغرفة تحوي كما ترى أجهزة استشعار الحركة المربوطة بالـsensors المدفونة على عمق 15 مترا على طول الحدود , وفور تسجيل أي شيء يتم نقله للفرق المسئولة عن المتابعة وأيضا يتم إرسال المعلومات للجانب الآخر عن طريق ضباط الاتصالات في الغرفة المجاورة لـ ..
- آسف للمقاطعة, لكن ماذا يعني "الجانب الآخر" ؟
- الإسرائيليون بالطبع , فالاتفاقية تحتم علينا التبليغ عن عمليات التهريب وقت وقوعها ليتخذوا الإجراءات اللازمة من طرفهم . فحتى لو فلت المهربون من ناحيتنا سيجدون من يستقبلهم في الجانب الآخر ويصطادهم كالفئران.
ثم ضحك الضابط عفيفي على نكتته الصغيرة والتفت لممدوح الذي كان يحاول الابتسام أيضا مجاملة للضابط الأعلى منه رتبة, ثم سأل:
- لكن الجانب الآخر هو في غزة, فكيف يصل الإسرائيليون لداخل القطاع بسرعة لضبط المهربين؟
- لا تشغل بالك بهذا , وعلى العموم فلليهود ناسهم حتى داخل القطاع ومن الفلسطينيين أنفسهم !
- و.. وماذا عن الجدار؟
توقف عفيفي عن الحركة بغتة وقال :
- من أخبرك بهذا ؟ إنها لا تزال معلومات سرية.
بدا على ممدوح الارتباك أكثر وتلعثم وهو يقول:
- سمعت بعض الزملاء يتحدثون عن الأمر عند وصولي, ولم أعرف أنها معلو..
قاطعه عفيفي وقال وقد لانت ملامحه بعض الشيء :
- لا تخف. أنت واحد مننا الآن ومن الأفضل أن تعرف كل شيء. فالخطة التي وضعها الأمريكان لمكافحة التهريب هي من شقين. الأول رأيته هنا أما الثاني - وهو من اقتراح الإسرائيليين بالمناسبة - فيقتضي إقامة جدار.
- لكن بالفعل هناك جدار أسمنتي على الحدود.
- لا. هذا جدار من نوع آخر . ألواح معدنية فولاذية طول الواحد 18 مترا وسمكه 5 سم, لا تؤثر فيها المعاول ويصعب اختراقها أو حتى تدميرها بالديناميت. ويتم الآن دفنها على عمق مترين قبل الشريط الحدودي بحيث لا تظهر فوق الأرض. وبهذه الطريقة حتى لو لم تلتقط أجهزة الاستشعار حركات المهربين فسيمنعهم الجدار الفولاذي من العبور لجانبنا. إنه الحل النهائي لعزل غزة تماما. خطة ذكية أليس كذلك؟ . الآن دعنا نكمل الدورة داخل المكان حتى تبدأ عملك غدا في أسرع وقت ممكن.
وخرجا من الغرفة فعاد الهدوء يسود المكان مرة أخرى.
----------------------------
تمنى طارق لو تهب نسمة هواء لتبدد الاختناق المحيط به, لكن هيهات. أدار عينيه فيما حوله من أشياء على ضوء الكشاف الهزيل, الأوعية المملوءة بالتراب والحجارة ومربوطة بالحبال التي تمتد خلفه وكأنما لما لانهاية, الجاروف الصغير والمعول وزجاجة ماء ذهب نصفها, قطعة القماش التي بللها عرقه وتغير لونها. لكن على الرغم من كل هذا كان مطمئن البال سعيدا بما يفعل. فهم ينتظرونه, الجميع ينتظره. على الجانب الآخر ينتظره من سيسلمه البضائع .
 في القطاع ينتظرون ما الذي سيأتي به من أطعمة ومقومات حياة .
 حتى الحكومة المصرية يخيم شبحها عليه وينتظره ليقبض عليه عند أول خطأ يرتكبه.
لكنه سيصل لنهاية النفق . سيرى الضوء بعد قليل ويعود كما جاء . لا .. ليس كما جاء, إنه سيعود منتصرا ومحملا بالعديد من الأشياء .
لا يدري لماذا تذكر أخاه الصغير وتخيله جالسا في بيتهم ينتظر الشموع والكيروسين ليذاكر دروسه على ضوئها. لا تكتئب يا أخي, لن يطول انتظارك.
نفض عنه الأفكار وشرع مرة أخرى في العمل.
مرت ساعة أو ربما أقل , فالوقت يمر هنا داخل النفق  ببطء شديد. سمع حركة غريبة فوقه فتوقف عن الضرب بالمعول ليرهف السمع. ربما تهيؤات, فالجو الخانق بالأسفل قد يلعب بعقلك الألاعيب. لكن الصوت تكرر مرة أخرى. ترى ماذا يعني؟ .
اهتز المكان حتى خاف أن تقع العوارض الخشبية التي تسند السقف. زاد الاهتزاز .. وفجأة انفتحت طاقة من نور فوقه . هل يحفر زملاؤه من الجانب الآخر؟ .
لكن شيئا ما في الأصوات التي سمعها أثار الرعب في قلبه .
أحدهم رمى شيئا عليه . إنها قنبلة دخان. كاد يختنق وملأت الدموع عينيه.
صرخ.
امتدت أيدي وسحبته بحركة عنيفة.
أحدهم يضربه في بطنه والآخر يلكمه في وجهه.
إنه الآن على سطح الأرض ويشعر بهبات النسيم تداعب وجهه, لكن بشكل ما لم يشعره هذا بأي تحسن .. هذا لم يكن النسيم الذي تمناه .
::: النهاية :::

كُتبت نهاية 2009 بعد قراءة خبر صحفي عن الجدار الفولاذي الذي سيسجن مسلمي غزة, وتقيمه الحكومة المصرية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق